ساسكيا باز : تاريخ السودان يذخر بأمثلة استخدام السلطة للتحريض على التمييز والعنف
ذكرت البروفسيرة ساسكيا باز – استاذة العلوم السياسية والخبيرة في الشؤون السودانية – في مقالها لصحيفة (حريات) ان أي تمييز هيكلي مستمر غالبا ما ينتهي الى العنف .
وأضافت ان السياسيين يرسمون الحدود بين المجموعات ويشجعون التمييز ، وان أداتهم الأساسية في ذلك اللغة – بربط المجموعات بكلمات معينة ، ونعوت ، يحددون بها المجموعة (الخيرة ) والمجموعة (الشريرة) . وتحدد كلماتهم من يمكن اعتبارهم أدنى ، ومن أعلى ، ومن يستحق الكراهية . ويحددون المنطق الذي على أساسه يتم التمييز بين الناس ، ويضفون عليه الشرعية عبر نظام التوزيع غير العادل ، والذي يستطيعون المحافظة عليه بسيطرتهم على موارد الدولة .
وأضافت ان تاريخ السودان يمتلئ بعديد من الأمثلة على استخدام السلطة للتحريض على العنف . ويقدم العنف الجاري حالياً في جبال النوبة نموذجاً في ذلك .
وقد صنفت دعاية الحكومة الحركة الشعبية كمجموعة متمردة وارهابية ، لاضفاء الشرعية على ردود فعلها العنيفة . ووصف عبد العزيز الحلو بـ (المجرم) ، كجزء من استراتيجية تشويه صورته والحركة الشعبية ، بنزع الطابع الانساني عنه وعن الحركة . هذا في حين أن أحمد هارون ، وليس عبد العزيز ، هو الذي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه .
وفي منطقة جبال النوبة نفسها ، يصور أعضاء الحركة الشعبية ككفار ، لتمييزهم عن المسلمين ولتشجيع القبائل العربية على استخدام العنف ضدهم . استراتيجية استخدمت لفترة طويلة جداً ، بحيث أصبحت راسخة في المؤسسات المجتمعية وفي المنطق السائد لدى الناس . ومثل أولئك التلاميذ ذوي العيون العسلية الذين قيل لهم بأنهم أعلى من ذوي العيون الزرقاء ، فان القبائل الرعوية العربية تم تعليمهم كي يميزوا ضد النوبة ، لأنهم مسيحيون ويأكلون الخنازير . وللمفارقة فان (المجاهدين) ليس لديهم مشكلة في استخدام الأسلحة التي يصنعها الصينيون ، وهم لا يأكلون الخنازير وحسب ، وانما كذلك الكلاب .
( نص المقال أدناه وفي قسم الكاتبة بمقالات اسبوعية )
التمييز
ساسكيا باز
في عام 1968 ، أجرت عالمة نفس ومعلمة تجربة لتعليم تلاميذها مفهوم التمييز . في صباح يوم ، أعلنت أن كل التلاميذ من ذوي العيون الزرقاء غير مسموح لهم بالشرب من الأكواب الزجاجية ، ويجب عليهم منذ الآن استخدام الأكواب الورقية بدلاً عنها . والأكواب الزجاجية مخصصة لاستخدام التلاميذ ذوي العيون العسلية وحدهم . وفي اليوم التالي ، أعلنت ان الملعب خارج المدرسة متاح فقط لذوي العيون العسلية وانه غير مسموح لذوي العيون الزرقاء باللعب فيه . في الايام التالية ابتكرت مزيداً من القواعد التي تفصل بين الاطفال ذوي العيون العسلية من الاطفال ذوي العيون الزرقاء ، وبدأت تسرد قصصاً تظهر ذوي العيون العسلية باعتبارهم متفوقين على ذوي العيون الزرقاء .
في غضون أسبوع بدأ القتال بين المجموعتين في الملعب وفي الفصل ، واضطرت المعلمة لانهاء التجربة حفاظاً على سلامة الأطفال . ويجب التأكيد على انه قبل بدء التجربة ، كان الأطفال جميعهم أصدقاء ، وعلى الأرجح لا يعبأون بلون عيون بعضهم البعض . وقد استخدمت المعلمة هذه التجربة لتوعية تلاميذها بمفهوم التمييز ، ولتشجيعهم للتأمل في سلوكهم الخاص .
منذ ذلك الحين ، كرر علماء الاجتماع التجربة عدة مرات ، في بيئات مختلفة ، وفئات عمرية مختلفة ، وباعتماد معايير مختلفة لتقسيم المجموعات . وكانت النتائج لافتة : يجنح الناس للتمييز ضد بعضهم البعض بناء على خصائص عشوائية وتعسفية ، مثل لون العيون ، طول الجسم ، وأي شئ … ويكون التمييز أكثر شراسة عندما يشرعن عدم المساواة بين المجموعات على أساس نظام توزيع غير عادل ( أكواب الزجاج ، القدرة على استخدام الملعب ) . والنتيجة الأكثر ازعاجاً : ينتهي أي نظام مستمر من التمييز الهيكلي غالباً الى العنف . اما لأن المجموعة الأعلى تطور رغبة في ابادة المجموعة الأدنى ، أو لأن المجموعة الأدنى تقرر الثورة ضد الظلم القائم .
وبالنسبة لعلماء الاجتماع ، وشخصي من بينهم ، الذين يحاولون فهم كيف يندلع العنف بين المجموعات الاثنية والدينية حول العالم ، فان مثل هذه التجارب مفيدة . والواضح ان للبشر نزوع طبيعي للسلوك الجماعي وللتمييز . وأحد الجوانب المثيرة في هذه التجارب ، هو وضعية المعلمة ، التي حددت معيار تقسيم المجموعات . وفي الحالة التي وصفتها اعلاه ، اختارت لون العيون ، وكان يمكنها ايضاً اختيار لون الشعر ، والذي سيشكل مجموعات مختلفة ، ولكنه سيؤدي الى نفس دينامية الصراع بين المجموعات . لقد كان دورها في العنف بالغ الأهمية : لقد حددت من يقاتل من . وقد فعلت ذلك من خلال تصنيف مجموعة كمجموعة أدنى وتصميم نظام يضفي شرعية مدعاة على هذه الوضعية الأدنى . والسبب الذي جعلها قادرة على القيام بهذا الدور ، كونها في وضعية سلطة ، وان التلاميذ يثقون بها .
وفي ( العالم الحقيقي) للنزاعات الاثنية والدينية يلعب السياسيون دور المعلمة . تعطيهم وضعياتهم السلطة لرسم الحدود بين المجموعات في المجتمع ، ويستخدمونها بما يحقق مصالحهم الخاصة . وأداتهم الأهم في ذلك اللغة – بربط المجموعات بكلمات معينة ، ونعوت ، ، يحددون بها المجموعة (الخيرة ) والمجموعة (الشريرة) . كلماتهم تحدد من يمكن اعتبارهم أدنى ، ومن أعلى ، ومن يستحق الكراهية . يحددون المنطق الذي على أساسه يتم التمييز بين الناس ، ويضفون عليه الشرعية عبر نظام التوزيع غير العادل ، والذي يستطيعون المحافظة عليه بسيطرتهم على موارد الدولة . هذه القدرة على تصنيف العالم ، واعطاء المعاني للكلمات ، وصفها عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في كتابه الشهير ( التمييز) . وأطلق على هذا النوع من السلطة اسم السلطة الرمزية .
ويمتلئ تاريخ السودان بعديد من الأمثلة على استخدام السلطة الرمزية للتحريض على العنف . ويقدم العنف الجاري حالياً في جبال النوبة نموذجاً في ذلك .
لقد صنفت دعاية الحكومة الحركة الشعبية كمجموعة متمردة وارهابية ، لاضفاء الشرعية على ردود فعلها العنيفة . ووصف عبد العزيز الحلو بـ (المجرم) ، كجزء من استراتيجية تشويه صورته والحركة الشعبية ، بنزع الطابع الانساني عنه وعن الحركة . هذا في حين أن أحمد هارون ، وليس عبد العزيز ، هو الذي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحقه .
وفي منطقة جبال النوبة نفسها ، يصور أعضاء الحركة الشعبية ككفار ، لتمييزهم عن المسلمين ولتشجيع القبائل العربية على استخدام العنف ضدهم . استراتيجية استخدمت لفترة طويلة جداً ، بحيث أصبحت راسخة في المؤسسات المجتمعية وفي المنطق السائد لدى الناس . ومثل أولئك التلاميذ ذوي العيون العسلية الذين قيل لهم بأنهم أعلى من ذوي العيون الزرقاء ، فان القبائل الرعوية العربية تم تعليمهم كي يميزوا ضد النوبة ، لأنهم مسيحيون ويأكلون الخنازير . وللمفارقة فان (المجاهدين) ليس لديهم مشكلة في استخدام الأسلحة التي يصنعها الصينيون ، وهم لا يأكلون الخنازير وحسب ، وانما كذلك الكلاب .
والسياسيون ، بتحديدهم للنعوت والأوصاف ، يرسمون الحدود بين المجموعات ويشجعون التمييز . ويضفون شرعية على وضعية المجموعات التي وصفت بانها أدنى ، ثم يعززون ذلك بالنظام غير العادل لتوزيع موارد الدولة . ويمكنهم من بعد ترك الباقي على الطبيعة البشرية .
0 التعليقات:
إرسال تعليق